القائمة الرئيسية

الصفحات



   لقد رأينا في الفصل السابق أن سماع قطعة موسيقية ما يضع سامعها في حالة شعورية معينة، وقد فسرنا هذه الخبرة الحقيقية بعملية ربط بالتداعي أو بعملية اقتران مسبق مشروط تجعل السامع يعود لدى سماعه للمقطوعة الموسيقية إلى الحالة الوجدانية التي كان فيها عندما سمع تلك المقطوعة لأول مرة، وذلك دون وعيه الكامل لهذا الاقتران ولأسبابه. 
  والظاهرة الأعم هي ظاهرة الإيحاء، حيث يسبب حاث ما استجابة معينة لدى مستقبله مرتبطة بذلك الحاث ارتباطا وثيقا، وذلك دون إدراك المستقبل أو المتلقي للحاث إدراكا واعيا. وبإمكاننا التأكد من فعل الإيحاء من خلال تجربة بسيطة بوسعنا أن نجريها بأنفسنا مع بعض ضيوفنا في لحظة وداعهم وهم يهمون بارتداء معاطفهم ويشكروننا على حسن ضيافتنا لهم، فإذا ما أخذنا غرضا ما بأيدينا ووضعناه أمامهم بسرعة بصورة توحي أننا نقدمه لهم)، فإنهم غالبا سيأخذونه دون وعي، حتى ولو كان ذلك الغرض مجرد كتاب أو محفظة أو مشجبة ملابس لا تمت لهم بأية صلة! وبعد أن يخرج الضيوف من البيت يمكننا حينئذ أن نسألهم على سبيل المزاح إن كان من عادتهم أن يأخذوا أغراض الناس الذين أحسنوا ضيافتهم! وعندها فقط يستوضح الضيوف عادة ما فعلوه ليشعروا بشيء من الخجل والحرج! 
  إن ما يحدث في هذه الحال هو أن تصرفا تلقائيا غير مقصود يصدر عن الضيوف (أخذ الغرض)، وذلك استجابة للحاث الذي نقدمه لهم (وضع الغرض أمامهم وكأننا نقدمه لهم). ولا يمكن للمرء أن يبدي بطريق الإيحاء تصرفا جديدا كل الجدة لم يعتد على إبدائه من قبل، بل لا بد لهذا التصرف أن يكون مألوفا لديه حتى يصدر عنه بطريقة تلقائية و عفوية ودون تفكير أو قصد بمجرد توفر الحاث المناسب. 
  ويمكننا أن ندرج أيضا مثالا آخر يوضح آلية التصرف بالإيحاء، وهو ما يستطيع أن يؤكده القيمون على الفنادق التي تقدم لزبائنها خيارين إما المنامة فقط وإما المنامة مع وجبة الفطور. 
  فمن المعروف لدى القيمين على تلك الفنادق أن الزبون الذي يختار المنامة مع وجبة الفطور يأكل في وجبته المجانية هذه أكثر بكثير من المعتاد - وبخاصة عندما يقدم الفندق عرضا غنيا مليئا بأنواع مختلفة من الخبز و اللحم المقدد والجبن والبيض المقلي والمسلوق. فعندها لا يكتفي الزبون بقطعة خبز واحدة ولا بشريحة من اللحم ولا بقطعة من الجبن ولا ببيضة واحدة، بل إنه قد يختار أكثر من قطعة أو شريحة واحدة من كل صنف و يشرب العديد من فناجين القهوة أو الشاي ويبالغ في ذلك حتى يتناول فوق طاقته أو على الأقل أكثر من المعتاد. 
  بينما قد يكتفي الزبون الذي سيضطر لطلب مكونات الفطور كل على حدة بقطعة خبز وبيضة وشريحة من اللحم المقدد أو من الجبن و فنجان من القهوة أو الشاي؟ ومن الممتع أن نلاحظ أن هذا التصرف لا يقتصر على الإنسان، بل إن الحيوان يسلك سلوكا مشابها أيضا. 
  فإذا ما وضعنا أمام دجاجة جائعة ۱۰۰ غرام من الحنطة، فإنها ستأكل حوالي 50 غراما منها وتترك ما تبقى مبعثرة على الأرض، لأنها تكتفي بنصف الكمية المقدمة لها وهي قيمة وسطية لما تتناوله الدجاجة عادة في الوجبة الواحدة. ولكننا عندما نقدم لتلك الدجاجة ۱۰۰۰ غرام من الحنطة، فإنها قد تأكل ما يقارب ۸۰ إلى ۹۰ غراما وتترك الباقي. 
  وهكذا فإن الكمية الزائدة التي تأكلها الدجاجة في المرة الثانية (30 إلى 40 غراما) إنما سببها أثر الإيحاء السابق الذكر، حيث تؤدي الكمية الكبيرة المقدمة في المرة الثانية إلى جعل الدجاجة تأكل أكثر من المعتاد وربما فوق طاقتها. وهكذا يبدو أن هذا السلوك بالإيحاء والذي يشترك فيه الإنسان والحيوان على حد سواء له جذور غريزية موروثة غير مكتسبة!
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع
    Back to top