القائمة الرئيسية

الصفحات

الموسيقى توقظ المشاعر



   بوسعنا في أي وقت أن نؤكد ما هو معروف في مجال علم النفس، بأن سماع لحن أو إيقاع نعرفه يوقظ تلقائيا ذكريات بعينها مرتبطة في داخلنا بذلك اللحن أو الإيقاع ارتباطا وثيقا. فإذا ما ترامت إلى ذهننا موسيقى المارش" والتي تمتاز بإيقاع متميز، فإننا نتذكر الوضعية التي سمعنا فيها تلك الموسيقى أو ما يشبهها للمرة الأولى في حياتنا. 
  وإذا ما سمعنا أغنية للأطفال نعرفها منذ طفولتنا، فإننا سنتذكر بصورة تلقائية أيضا زمن الطفولة والمواقف المرتبطة بتلك الأغنية، فنتخيل أنفسنا على سبيل المثال في بيت الأهل القديم محاطين بالأشخاص المحببين على قلوبنا وتنشأ داخلنا مشاعر الحنين إلى تلك المرحلة. 
  وإذا سمعنا أغنية كنا قد تعلمناها في المدرسة، فإننا سنتذكر المدرسة ومعلمة الموسيقى وكل ما يتعلق بدرس الموسيقى... ولعل الفرق الأساسي بين الكلام والموسيقى هو أن الكلمة تحمل مدلولا محددة يتبادر إلى الذهن مباشرة لدى سماعها أو قراءتها، وذلك بغض النظر عن الوضعية التي سمعنا أو قرأنا فيها تلك الكلمة لأول مرة، بينما تردنا الموسيقى في كل مرة نسمعها فيها إلى الشعور الذي كان ينتابنا عندما سمعناها لأول مرة، فضلا عن كون المدلول الذي تحمله لا يكون على تلك الدرجة من التحديد التي يتميز بها مدلول الكلمة. 
  فعندما نسمع على سبيل المثال تعبير "حساء القرنبيط"، فإننا نعرف بالضبط ما هو المقصود بهذا التعبير، وقد نستطيع إذا ما أغمضنا أعيننا أن تتخيل الطعم الذي يتميز به ذلك الحساء، وذلك بغض النظر عن الوضعية التي تذوقنا فيها ذلك الحساء للمرة الأولى في حياتنا.
  ولكننا عندما نستمع إلى أغنية "يا غزالي"، فإننا غالبا ما سنتذكر مواقف معينة من طفولتنا أو من زمن الدراسة، وقد نتذكر منظر طبيعية مرتبطة بشكل من الأشكال بهذه الأغنية. والأهم من ذلك كله أننا نشعر بحالة نفسية معينة، وإذا ما أسندنا ظهرنا إلى الخلف وأغمضنا أعيننا، فإننا سنستذكر ربما أياما خلت منذ زمن بعيد وسنشعر بالحنين إلى تلك الذكريات. 
  وعندما ترفق باللحن كلمات معينة، فإن هذه الكلمات ستساعد بالطبع على نشوء تداعيات تربط اللحن بذكريات وصور محددة حتى ولو كان اللحن جديدا على مسمع السامع، لأن للكلمات دلالات محددة ومن الآن فصاعدا سوف نربط هذه الدلالات أو التصور الذي تشكله باللحن الذي نسمعه الآن لأول مرة. وإذا ما سمعنا هذا اللحن مرة أخرى مجردا من الكلمات، فإن ذلك التصور بعينه سيتبادر إلى ذاكرتنا من جديد! وهكذا بوسعنا أن نقرن بأي لحن أو بأي إيقاع تقريبا، بمساعدة الكلمات، تصورة معينة سوف نتذكره لاحقا في كل مرة يطن اللحن أو الإيقاع في آذاننا، حتى عندما يكون مجردا من تلك الكلمات. 
  وما نحن بصدده الآن إنما هو نوع من أنواع الإقران المشروط شبيه جدا بذلك النوع الذي نفسر به آلية تطور میل أو كره الطفل لنوع معين من أنواع الأطعمة: فعندما نقدم لطفل ما لأول مرة في حياته طبقا من السبانخ ويعبر الجالسون حول المائدة عن إعجابهم الشديد بهذا الطبق الشهي، فإننا سنجد الطفل يعجب تلقائيا بطبق السبانخ - حتى إنه قد يعجب بلونه الأخضر - وعندما تعلن والدته في المرة القادمة أنها قد حضرت طبقة من السبانخ، سنجده يسر لسماع هذا الخبر وينتظر موعد الطعام بفارغ الصبر.
   وعلى العكس من ذلك فإن ذلك الطفل سيطور تلقائيا رفضا واضحا لطبق السبانخ، إذا ما لاحظ أن إخوته على سبيل المثال يمتعضون من رؤية ذلك الطبق على مائدة الطعام ويعبرون تعبيرا واضحا عن عدم تقبلهم له في أول مرة يقدم للطفل الصغير طبق السبانخ هذا. ولا عجب حينئذ أن يكون رد فعل الطفل سلبية في المرة القادمة التي تعلن فيها والدته بأن طبق اليوم سيكون محضرا من السبانخ ! 
  ونعرف الآن أن العديد من حالات الميل أو الكره تجاه نوع معين من أنواع الطعام لدى البالغين، والتي قد تمتد لسنوات طوال، يمكن إرجاعها إلى شكل من أشكال الاقتران المشروط. فعندما لا يرغب أحد ما بشرب الحليب أو لا يتقبل أكل السمك على سبيل المثال، فإن ذلك غالبا ما يمكن إرجاعه إلى تلك الانطباعات السلبية التي نشأت لدى أول تجربة لذلك الشخص مع تلك الأنواع من الطعام، حتى ولو لم يعد يتذكر تلك الانطباعات أو تلك التجربة بصورة واعية. 
 فليس بوسعنا إذا أن نعرف مسبقا الانطباعات والمشاعر التي ستتركها مقطوعة موسيقية ما في نفس الشخص الذي يسمعها لأول مرة. ولكننا نستطيع بدرجة مقبولة من التأكيد أن نتوقع ما ستتركه تلك المقطوعة من انطباعات و مشاعر في نفس المستمع وأن نحدد الحالة الوجدانية التي تأخذه"إليها، إذا كان يعرفها مسبقا أو إذا كانت ترافقها كلمات (نحو الأغنيات والأناشيد وما إلى ذلك). وإذا ما كان الهدف من توظيف الموسيقى هو وضع مجموعة من المستمعين في حالة نفسية وعاطفية موحدة نوعا ما، علينا أن نستخدم لهذا | الغرض أغاني معروفة أو موسيقى من المعروف أنها تؤدي إلى تداعي المشاعر والانطباعات المطلوبة. وعلينا أن نترك إدخال الأغاني والموسيقى الجديدة لأصحاب الخبرة والاختصاص. 
  وفي مجال الدعاية أيضا يعتبر استخدام الألحان غير المعروفة طريق محفوفة بالكثير من المخاطر لأن تلك الألحان نادرا ما تحقق هدفها في وضع مجموعة المستمعين في حالة نفسية و عاطفية موحدة وقد توقظ لديهم في كثير من الأحيان انطباعات ومشاعر معاكسة لتلك المقصودة في الأصل! 
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع
    Back to top