تعج حياتنا اليومية بمواقف أو حالات الصراع المختلفة، أكان مسرحها مكان العمل - مع رب العمل أو مع العاملين والزملاء أو مع العملاء والزبائن - أم كان ذلك في خضم تسيير الأمور الحياتية - مع الأنظمة والقوانين والبيروقراطية - أم كان ذلاء في مجال الحياة الشخصية - مع الأطفال أو مع أقرب وأعز الناس كالصديق أو الحبيب! ولكل تلك الحالات صفة مشتركة وهي أن حالة الصراع تنشأ عندما نتوقع أمرا ما ولا يتحقق - سواء أكنا نحن من عليه تحقيق الأمر أم كان ذلك مطلوبة من الأخرين. ولما كنا في تكويننا كائنات تأمل وترغب وتوقع وتنظر باستمرار إلى المستقبل، ولما كنا لا نستطيع أن نملك زمام كل الأمور، فإن احتمال الإخفاق الكلى أو الجزئي وارد دائما. وهذا ما قد يوقعنا في صراع مع ذائقا أو مع الأخرين.
إن عدم تحقيق الأمال أو التطلعات پسمى إحباطأ frustration لأن الجهود المبذولة والأمال المربوطة بتحقيق الأهداف تكون قد ذهبت سدی (حسب التعبير اللاتيني "fusta"). فالتطلعات هي أهداف تحكم تصرفاتنا إلى أبعد الحدود. والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعيش بلا هدف في الحياة، لأن غياب الأهداف يصيب المرء بالكتابة التي قد تودي به إلى الانتحار. ومن ناحية أخرى فإن تحقيق الهدف يجعل الإنسان يعيش" النجاح ويكسبه "خبرة النجاح"، وحالات النجاح هي "وقود" حياتنا النفسية والروحية، إنها الدافع الذي يحفز الإنسان لكي يكون فاعلا في الحياة، ولا يقتصر قصدنا هنا بالفاعلية على المجال الحركي أو الجسدي فحسب، بل قد تأخذ الفاعلية طابعا فكريا بحتا.
وهكذا يسعى الإنسان في نهاية المطاف دائما إلى النجاح، أي إلى تحقيق أهدافه. وكلما استطاع أن يقوي شعوره بأن أهدافه نابعة من داخله وبأنها لم تفرض عليه فرضا، وكلما استطاع أن يقف وراءها ويدعمها بكل ما أوتي من طاقة، وكلما كانت قناعته راسخة بأهمية وجدوى ومشروعية تلك الأهداف، سهل تحقيقها. وفي هذه الحال نتكلم عن قيام رابطة قوية - اتحاد - بين الهدف وصاحبه. ولا شك أن الإخفاق سيكون حتميا في غياب تلك الرابطة القوية، أي عندما لا يستطيع صاحب الهدف أن يقف وراء هدفه بكل طاقته - أكان ذلك بسبب غياب القناعة التامة بإمكانية تحقيقه، أم بسبب عدم الاقتناع بمشروعيته أو بمشروعية أي من مكونات ذلك الاتحاد بينه وبين هدفه.
ولسوء الحظ فإن % ۸۲ من العاملين في ألمانيا على سبيل المثال تنقصهم تلك الرابطة القوية بأهدافهم المهنية في العمل. وعلى العكس من ذلك هناك في كثير من الأحيان تنافر فكري بين رغبات العامل الداخلية وما يقوم به مهنيا. إنه لا يقوم بعمله التحقيق ذاته أو انطلاقا من دافع أولي داخلي، بل انطلاقا من دوافع ثانوية نحو إرضاء الرئيس في العمل أو تحقيق شروط الترفيع الوظيفي أو ببساطة بغرض كسب المال للعيش. وهنا سرعان ما ينتقل الهدف الحقيقي للإنسان في الحياة إلى مجالات تقع خارج نطاق العمل مثل نشاطات أوقات الفراغ كالقيام بالرحلات وممارسة الهوايات المختلفة.
وهكذا ينتقل اهتمام معظم الناس من مجال عملهم إلى مجالات الحياة خارج نطاق العمل، حيث تزداد توقعاتهم بالنجاح في تلك المجالات، بينما ينمو لديهم شعور بالإحباط وعدم الاكتراث في مجال الحياة المهنية وتصبح نشاطاتهم في هذا المجال المهم والحيوي مجرد وسيلة لتحقيق رغبات أخرى بعيدة عنه. ولا تقتصر صحة هذا التصور على العامل في مكان عمله فحسب، بل يبقى هذا التصور صحيحا أيضا بالنسبة للعلاقة بين التلميذ ومواده الدراسية في المدرسة من جهة والطالب وأهدافه العلمية في الجامعة من جهة أخرى، الأمر الذي يشكل برمته خطر كبيرة على سلامة المجتمع وتطوره. ولكننا نستطيع أن نتفادى ذلك الخطر ونغير هذه الصورة القاتمة عندما نتعلم كيف نفهم أنفسنا فهما صحيحا وكيف نتعامل مع من حولنا في المجتمع من زملاء وشركاء وأطفال ومواطنين بشكل عام تعاملا سليما، وهذا ما سنناقشه فيما يلي. وهنا نود الإشارة إلى ملاحظة مهمة جدا ومثيرة فعلا للاهتمام وهي أن توقعات و آمالا جديدة تنشأ لدى الناس كلما تحققت توقعات و آمال أخرى.
ومن الملفت أن مستوى توقعاتنا و أمالنا يرتفع باطراد مع تحسن أحوالنا بشكل عام؟ وهذا ربما يناقض الافتراض القائل بأن المرء سيكون أكثر رضا وقناعة بعد أن تتحقق معظم أماله الحالية. على العكس من ذلك، فإننا نرى في الواقع أن مستوى الإحباط يزداد بارتفاع مستوى المعيشة! ولكننا لا يمكن أن نعزو سبب ارتفاع مستوى توقعاتنا إلى ارتفاع مستوى المعيشة فحسب، بل إن بناءنا الروحي والنفسي ككل يعتمد في الأساس على أن آمالنا وتوقعاتنا تتجدد باستمرار ويرتفع مستواها. فاستقلالنا المضطرد عن وصاية الآخرين وتحررنا من كل ما يحدد حريتنا ويثقل كاهلنا يجعلنا أكثر نضجا و بلوغا ويجعلنا نسعى إلى المزيد من تحقيق الذات ويجعلنا علاوة على ذلك نطالب بحريتنا وتحقيق ذاتنا من موقع القوة! لقد كان أسلافنا عموما أكثر منا رضا و اتزانا برغم - وربما بسبب - ظروفهم المعيشية الصعبة! فحياتهم كانت مليئة بالإخفاقات ولم يكن الحظ يحالفهم أكثر مما يحالفنا. ولكنهم برغم ذلك كانوا أكثر منا قدرة على تحمل الإخفاقات والظروف الصعبة، ربما لأنهم كانوا يردونها إلى أسباب دينية وإرادة فوقية، ولأنهم كانوا يؤمنون أكثر منا بالقضاء والقدر". وربما كانوا يفتخرون علاوة على ذلك عندما يمرون بظروف صعبة بأن الخالق قد اختارهم من بين الآخرين ليمتحن إيمانهم وبأنهم قد جابهوا تلك الصعاب بالتقبل والصبر ونجحوا في امتحان الحياة". وأما نحن فلم يعد بوسعنا أن ننظر إلى الحياة من هذا المنظار.
فلقد اعتدنا ألا نقبل بالهزائم ببساطة وألا ننظر إلى الصراع على أنه أمر مفروض علينا ولا يمكننا تجنبه. بل لقد تعلمنا أن نحلل حالات الصراع ونستخلص أسبابها ونحاول حلها أو تفادي الوقوع فيها في المستقبل. وفي جميع الأحوال لقد تربينا على أن نواجه القدر بدلا من أن نقبل به! إننا نعتقد أن كوننا أحرارا | ومستقلين يحتم علينا أن نكون قادرين على السيطرة على حياتنا وعلى التحكم بقدرنا إلى حد ما. كما نعتقد أن بوسعنا فعل الكثير من أجل تحقيق سعادتنا - بدل القبول بأن كل شيء مرسوم مسبقا وأن ليس باليد حيلة! فمن وجهة النظر الجديدة هذه يمكننا أن نصنع" حياتنا بأيدينا.


تعليقات
إرسال تعليق